كيف ظلت ثابتة؟ وكيف ظلت حية؟ هذا السؤالان ظلا يدوران برأسى وأنا أقرأ كتاب “أيام من حياتى” – الصادر عن دار التوزيع والنشر الإسلامية – لمؤلفته زينب الغزالى الجبيلى التى تنتمى إلى جماعة الإخوان المسلمين. وتحكى زينب فى كتابها عن ست سنوات من حياتها قضتها فى السجن: اثنتين منها فى السجن الحربى وأربعة فى سجن القناطر.
وقد هالنى ما قرأته عن صنوف التعذيب البدنى والنفسى التى تعرضت لها من: تعليق كالذبائح وجلد بالسياط، والحبس فى زنزانة مظلمة مع الكلاب المدربة والفئران، ومحاولات انتهاك العرض، والتجويع والمنع من الماء واستخدام دورة المياه لعدة أيام متواصلة، وتقديم طعام وماء تأنفهما النفس إن قُدِّم، والحبس فى زنزانة الماء التى تجلس فيها فيغطيها الماء حتى ذقنها، إلى إيقافها ووجهها إلى الحائط ليالى كاملة، ..الخ، وهكذا حتى أربع وثلاثين نوعاً من العذاب.. الخ.
هذا غير السباب والتجريح والإهانة بأقذع وأقبح الألفاظ. كانت تصرخ مستغيثة بالله فيتهكمون عليها قائلين: “أين ربكم هذا؟ لماذا لم ينقذكم؟ لو ناديتِ على جمال عبد الناصر… (ويقدمون لها المغريات)“! أشعر بالذهول أن يصدر هذا الكلام عن إنسان مسلم أو عن أى إنسان يؤمن بوجود إله. لقد ذكرنى هذا الكلام بما كان يقوله كفار قريش للصحابة وبما يقوله المتجبرون للمؤمنين المستضعفين فى كل زمان. كنت أقلب الصفحة تلو الأخرى وأنا لا أصدق أن مثل هذه الجرائم يمكن أن تصدر عن مسلمين، بل عن بنى آدم، بل إن حتى الحيوانات فى قلوبها رحمة عن هؤلاء.
من المواقف التى علقت بذهنى من الكتاب:
ذات يوم أدخل الشياطين عليها فى الزنزانة جندياً ليعتدى عليها ثم أغلقوا الباب عليها وتركوه يقوم بمهمته حتى يعودوا إليه بعد حين، إلا أن الجندى رفض أن يمسها بسوء وأخذ يرجوها أن تدعو له، ويسألها عن سبب وجودها فى السجن وتعرضها لهذا العذاب. وكان جزاء شهامته الإعدام رمياً بالرصاص!
وفى يوم آخر أُدخِل عليها جنديان آخران، وشُرِح لهما كيف يقومان بمهتمهما، ثم ترك واحد منهما معها وأمر بأن ينادى زميله بعد أن ينتهى من مهمته ليقوم معها بنفس الشئ. وعندما هم بالاقتراب منها “طبقت فى زمارة رقبته” حتى وقع صريعاً على الأرض والرغاوى البيضاء تخرج من فمه. شعرت بالذهول من هذه القوة التى تمكنت بها من ذلك رغم ما بها من آلام التعذيب وآثاره.
وفى مرة غفت، وكانت تشعر بالجوع والعطش الشديدين، فرأت مخلوقات كاللآلئ تحمل لها أصنافاً من الطعام فأكلت وشربت حتى استيقظت من نوها فى شبع ورى حتى كان مذاق ما اكلت فى المنام لايزال فى فمها!
- وابتسمت ابتسامة ساخرة مهمومة عندما طلبت زينب الكلمة أثناء المحاكمة وكان من ضمن ما ورد فى كلامها كلمة “أسوة”، فأخذت القاضى نوبة هستيرية وأخذ يصرخ: “اسكتى اسكتى هى بتقول إيه؟ يعنى إيه (أسوة). إيه معناها الكلمة دى؟ ويكرر هذا. وهنا ضجت القاعة بالضحك على ذلك الذى حكموا عليه أن يكون قاضياً وهو لا يفهم معنى كلمة “أسوة”.
ومن المفارقات المضحكة المبكية عندما كانت مع حميدة قطب فى سجن القناطر، وكان بجوار حجرتهما عنبر ممتلئ بالسجينات المصابات بالأمراض المعدية، وكان فى نهاية المبنى دورة مياه سمح لهما باستخدامها مخالطين لهؤلاء المرضى. وفى الناحية الأخرى من المبنى، كانت توجد بعض النساء فى حجرات نظيفة مزينة، وكانت توجد كذلك دورة مياه صحية. وعندما سألت عن هؤلاء عرفت أنهن يهوديات. وتذكر زينب ما قالته السجانة عنهن: “قاعدين ومتنزهين، لا أحد يقول لهم كلمة ولا يؤخر لهم طلباً. زى البيت وأحسن شوية، كلهم جايين فى تجسس.”
وعندما طلبت زينب وحميدة بالسماح لهم بدخول دورة المياه النظيفة رفض طلبهما لأنها خاصة باليهود! إلا أن العجيب رد فعل اليهوديات اللاتى أتت واحدة منهن إلى زينب وحميدة قائلة: “أنا مرسيل مسجونة سياسية وطبعاً – بيننا وبينكم خلاف فى العقيدة، فأنا يهودية وأنتم مسلمون، لكن النفس لا تخلو من إنسانية، خاصة وقت الشدائد والمحن – فلا مانع أن تكون بيننا وبينكم معاملة طيبة فى السجن. أما خارجه فبيننا الحرب والقتال أو الخلاف فى الأهداف..” ثم أخبرتهما أنها أتت إليهم فى غفلة من المسئولين لتعرض عليهما بعض الخدمات قائلة: “نحن لدينا إمكانيات للأكل وإن كانت قليلة فسنقتسمها معكم، وسأتحرى ألا يكون فى الأكل ما هو محرم عندكم”. كما دبرت لهما أمر استخدام دورة المياه النظيفة.
ومن المواقف التى تأثرت بها جداً حتى كدت أذرف الدمع:
- أن زوج زينب بعد سماعه الحكم عليها أصيب بشلل نصفى، وقد كان مصاباً بذبحة صدرية عند استيلاء عبد الناصر على شركاته، وأموالهن وأرضه، وبيته. وفى يوم، ذهب الطغاة إليه وخيروه بين تطليقها (وكان معهم المأذون) أو أخذه إلى السجن الحربى، وأصروا أن يقرر فوراً. واضطر الرجل إلى التوقيع على قسيمة الطلاق وهو يقول: اللهم اشهد أننى لم أطلق زوجتى زينب الغزالى الجبيلى. وقال لهم: اتركونى أموت بكرامتى، أنا سأموت وهى على عصمتى. وفعلاً لم يلبث أن توفى بعد هذه الحادثة بقليل.
- عندما أتى خبر الإفراج عن زينب فقط (رغم أنها كانت تنفذ حكما بالأشغال الشاقة المؤبدة فى حين أن حميدة كانت تنفذ حكماً بعشر سنوات)، صرخت رافضة أن تخرج وتترك حميدة فى السجن وحدها فى هذا المستنقع الآسن، فاستحضروا لها حميدة فى غرفة المأمور حتى تهدئها. وفى نهاية اللقاء بينهما والذى طال، تعانقنا والدمع يخط مجراه على الوجوه والقلب ينبض بسرعة والنفس ويتررد، وانصرفت حميدة بأمر المأمور، وتمت إجراءات الإفراج عن زينب، وعادت إلى بيتها فى العاشر من أغسطس 1971م.
انتهيت من هذا الكتاب وأنا أدعو الله: ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به، ولا تفتننا فى ديننا…